ضرورة الدين للإنسان
...
1ـ من منا لم يفكر في هذا الكون المحيط بنا ؟
كيف نشأ ؟ وكيف يسير ؟ وما هدفه ؟
هل وجد بذاته ، أو له خالق ؟ أوجد بالصدفة ، أم بقدرة قادر؟
ومن هذا القادر ؟ وما صفاته ؟ وما صلته بهذا العالم ؟
وهذا الإنسان : أهو مركب من جسد وروح ؟ وإن كان كذلك ، فما الروح ؟ أخالدة هي ، أم فانية ؟ وإن كانت خالدة ، فكيف يبعث الإنسان مرة أخرى؟ وكيف يحاسب ؟ وما مصيره ؟ ومتى سيكون ذلك ؟
وهذه الدنيا: هل لها نهاية ستقف عندها ؟ أو أنها مستمرة إلى غير نهاية؟
وهذه الحياة : ألها أسلوب شريف ، وأسلوب وضيع ؟ وما مقياس الخير والشر ، والحسن والقبح ، والحق والباطل ؟
وهذا الإله : ( على فرض وجوده ) أيمكنه أن يتصل ببني الإنسان ، ويختار أحدهم ، ليكون رسولا بينه وبين باقي الخلق ؟ وكيف ذلك ؟ وبم نعرفه نحن ؟
إن هذه الأسئلة ـ وغيرها من مثلها ـ تفرض نفسها على كل إنسان ويشعر بحاجته الشديدة ، ورغبته الملحة في أن يحدد موقفه منها ، ويعرف وجه الحق فيها ؛ ليضع نهاية للقلق النفسي ، والتوتر العصبي ، والحيرة الفكرية التي يحياها ، وليعيش في طمأنينة قلب ، واستقرار نفس ، وهدوء بال .
والدين هو الذي يقدم الإجابة الشافية على هذه الأمثلة ، وعلى كثير غيرها من مثلها ، فتطمئن النفس ، ويسكن القلب { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } الفتح /4 . { الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)} [ الرعد ]
2ـ وإننا نقرأ في كتب التاريخ ـ سواء ما كتبه المسلمون أو غيرهم ـ أنه قد وجد رجل اسمه ( محمد بن عبد الله ) ادعى أنه رسول من عند خالق هذا الكون ، وأنه منحه علامات ودلائل على صدقه .
فإذا كان هدف الإنسان الحصول على السعادة ، وتجنب التعاسة ، فعليه أن يبحث في هذا الموضوع ، ويدرسه دراسة جادة ؛ ليصل إلى وجه الصواب فيه ، وخاصة أن التاريخ يحدثنا أيضا أن الذين اتبعوا المبادئ التي جاء بها هذا النبي سادوا الدنيا ، وكانوا عباقرة في كل مجالات الحياة ، وعندما تخلوا عنها أصابهم الذل والهوان .
3ـ إن الدين يبين لنا كيف نشأ هذا العالم ، وكيف أوجده الخالق ـ جل في علاه ـ ويفسر لنا غوامض الكون { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا لك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12) } [ فصلت ].
{ ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال أرساها (32) متاعا لكم ولأنعامكم (33) } [ النازعات ] .
هكذا يبين لنا الدين كيف نشأ العالم ، ويوضح صلة الخالق به .
4ـ ثم إن الدين يضع للإنسان النظام الأمثل لحياته في جوانبها المختلفة من عبادات تقربه من ربه ، ومن تشريعات سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية ، وأخلاقية لازمة لحياته في مجتمعه .
فإن الإنسان لا يستطيع أن يعيش منفردا منعزلا عن بني جنسه ، وإلا ما وجد عقله ، وملكاته ، ودوافعه ، وأعضاؤه فرصة للنمو والاكتمال فهو في حاجة إلى أن يعيش وسط جماعة ، وأن يتعاون معهم ، لأنه لن يستطيع أن يعتمد على نفسه في كل ما يحتاج إليه من غذاء ، وكساء ، ومسكن وغير ذلك ، بل لابد أن يتعاون معهم : يأخذ ويعطي.
وهذا التعامل يحتاج إلى نظام وقواعد وقانون يضبطه ، لكي يتحقق العدل ، ويتقي الجور والظلم ، وإلا طغى الكبير على الصغير ، وأكل القوي الضعيف ، وصارت الحياة فوضى وإباحية ، وعنف وأنانية .
والدين هو الذي يقدم هذا النظام الذي يحقق العدل في المجتمع (1)
5ـ وصحيح أن الإنسان يولد على الفطرة { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) } [ الروم ] .
{ وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون(174) } [ الأعراف ] .
وهذه الفطرة لو تركت وشأنها ، لاتجه الإنسان إلى معرفة الله ، وحاول التقرب إليه ، لكن هذه الفطرة قد تنحرف بصاحبها عن الصراط السوي ، وهذا ما حدث ، فقد عبد أناس الأصنام ، وعبد آخرون الأشجار والحيوانات ، وبعض مظاهر الكون والطبيعة .
فكان الدين لصيانة الفطرة من الانحراف ، ولتقويمها إذا اعوجت ، وتصحيحها إذا انحرفت.
فالبيئة الفاسدة خطر كبير على الفطرة الإنسانية ، فإنها تمسخها ، وتبعد بها عن معرفة الخالق سبحانه وتعالى ، والالتجاء إليه ، ويتجلى ذلك في التأثير المباشر للأسرة على النشء ، فقد تلقنه بعض المبادئ المنحرفة ، فيشب الطفل ، وهو متعصب لها نتيجة الأثر النفسي لوالديه فيه ، وهذا ما قاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه"(2)
ولم يقل : أو يسلمانه ؛ لأن الإسلام دين الفطرة .
وهذا ما يفسر لنا انصراف بعض العلماء على المستوى العالمي عن التدين ؛ فإن الواحد منهم إذا ما تلقن في طفولته بعض الآراء المشوهة عن الله تعالى ، مثل التثليث ، والبنوة ، والصلب ، والخطيئة ، وما إلى ذلك ، ثم اتجه إلى الدراسة العلمية في فرع من فروع العلم الحديث الذي يعتمد على المنهج العلمي الذي يقوم على الملاحظة والتجربة ، أو على المنهج الرياضي الذي يقوم على مبادئ العقل ، فإنه يشعر بتعارض بين ما تلقاه في صباه ، وبين ما يصل إليه من نتائج وحقائق ، ثم ما يلبث هذا الصراع النفسي أن ينتهي بنبذ فكرة التدين ، والاتجاه فقط نحو العلم المادي الذي جعله الله مباحا لمن آمن به ، ولمن كفر .
فالتنشئة الخاطئة ، والبيئة الفاسدة ، والتعصب الأعمى ، والحرص على المصالح الشخصية ، والجري وراء الأهواء والشهوات ، كل هذه العوامل تؤدي إلى انحراف الفطرة ، وشيوع الإلحاد .
6ـ وكثيرا ما نقرأ عن حوادث انتحار الشباب ، وانتشار الأمراض النفسية والعصبية في الدول المتقدمة التي تدعي الحضارة والعصرية . وذلك بسبب طغيان الجانب المادي في الإنسان ، وإهمال الجانب الروحي الذي يشبعه الدين ، ولم نسمع بمثل هذا في الدولة الإسلامية أيام أن كان المسلمون متمسكين بدينهم ، وعلى صلة قوية بربهم جل في علاه (3)
والإيمان يحرر الإنسان من الخوف من المجهول ، ومن العبودية للمخلوق أيا كان شأنه ، ويحرره من الذل والهوان ، والجبن والاستسلام ؛ لأنه يؤمن بأن الخلق جميعا لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشئ ، لن ينفعوه إلا بشئ قد كتبه الله له ، وإن اجتمعوا على أن يضروه ، لن يضروه إلا بشئ قد كتبه الله عليه .
فلا مجال ـ مع وجود الإيمان ـ للجبن ولا للنفاق ، ولا للكذب ، ولا للشقاق ، فالأعمار مقدرة ، وهي بيد الله : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [ آل عمران /145] . والأرزاق مقدرة ، وهي أيضا بيد الله : {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6) } [ هود / 6 ] .
والإيمان يجعل الإنسان متفائلا دائما راضيا بما قسم الله ، لا يعرف التشاؤم سبيلا إلى قلبه ، ولا اليأس طريقا إلى نفسه ، ولا يملك التحسر على ما فاته من أمور الدنيا عليه كيانه ، فيشل حركته ، ويميت نشاطه {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)} [ البقرة /216] .
7ـ إن الإنسان إذا تأمل كل ما يقع تحت حسه من أجناس الموجودات، وجد نفسه سيدا لها .
وإذا كانت السيادة تعني الخادمية والمخدومية ، فأجناس الموجودات جميعها خادمة له ، وهو مخدوم منها .
وأجناس الموجودات مرتبة ترتيب حكمة ؛ بحيث يخدم الأدنى فيها كل أجناس الأعلى منها .
فالجماد الذي نراه ممثلا في الشمس والقمر والجبال ، وعناصر الأرض والماء. كل ذلك يخدم أجناس الموجودات التي تعلوه ، فهو في خدمة النبات . يمده بكل عناصر الغذاء والنمو ، وهو في خدمة الحيوان ، يمده بكل عناصر البقاء ، وهو أيضا في خدمة الإنسان يمده بكل ذلك .
فإذا ارتقينا إلى النبات ، وجدناه لا يخدم ما دونه ، وهو الجماد ، وإنما يخدم من هو أعلى منه ، وهو الحيوان والإنسان .
فإذا ارتقينا إلى الجنس الثالث ، وهو الحيوان ، وجدناه لا يخدم من دونه . وإنما يخدم من هو أعلى منه . وهو الإنسان .
ثم تقف حلقات الخدمة ، فلا تجد للإنسان ارتباطا بغيره من الأجناس ، يكون هو في خدمتها . إذن فقد انتهت خدمة الكون كله عند الإنسان . وبقى على الإنسان أن يبحث عن مهمته في هذا الوجود .
الجماد له مهمة يؤديها مع النبات ، والحيوان ، والإنسان .
والنبات له مهمة يؤديها مع الحيوان ، والإنسان .
والحيوان له مهمة يؤديها مع الإنسان .
ثم تنتهي حلقات الخدمة .
فأين مهمتك أيها الإنسان ؟ وأنت في خدمة من أيها الإنسان ؟
كان على الإنسان العاقل المفكر أن يبحث عن مهمته في هذا الوجود ، وإلا كان أقل من الجماد ، وأتفه من النبات ، وأدنى شأنا من الحيوان . وكيف يكون السيد المخدوم أقل شأنا من الخادم !!
إذن فلابد أن يكون للسيد المخدوم مهمة تناسب سيادته على كل عناصر الموجودات .
ثم أيها الإنسان ؛ هذه الأجناس متى خدمتك ؟
أخدمتك عندما وجد لك عقل تفكر به لتخدمك ؟
أخدمتك عندما وجدت لك قدرة عليها ؟
أم خدمتك قبل أن يوجد لك عقل ، وقبل أن توجد لك قدرة ؟
هب أنك كنت في البيت وحدك لا أحد معك ، واستيقظت ، فوجدت مائدة عليها من أصناف الطعام لفطورك . أما كان الأجدر بعقلك وفكرك أن تبحث عمن جاء لك بتلك المائدة ؟ أم تتناول المائدة تناول الغاصب ؟
الإنسان يرى في الوجود أشياء لا قدرة له عليها . كان من الواجب عليه أن يبحث عمن أوجدها له ، وعمن سخرها لخدمته دون قدرة له عليها ، وقبل أن توجد له قدرة !
إذن حينما يرحم الله الناس ، ليخرجهم من غفلتهم ، فيرسل لهم رسلا يحلون لهم هذا اللغز : من الذي سخر لكم ما لا تقدرون عليه ، وأمدكم قبل أن توجد لكم قدرة ؟
كان من الواجب على الإنسان أن ينصت للرسول ، ويقبل عليه ، لا أن يصم أذنيه ، ويرتكب حمقا آخر . الحمق الأول : لم يفكر في مهمته في الوجود ، والحمق الآخر : إعراضه عمن جاء ليحل له لغز الحياة .
تأمل الحديث القدسي : " يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي " .
" خلقت الأشياء من أجلك " هذا هو العنصر الموهوب.
" وخلقتك من أجلي " هذا هو العنصر المطلوب. وهو المفسر في قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن (57) يطعمون (58) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } (4) [ الذاريات ] .
هل يصلح العقل بديلا عن الدين ؟
لكل حاسة من حواس الإنسان ـ السمع ، والبصر ، والذوق ، واللمس ، والشم ـ وظيفة خاصة بها ، ومجال تعمل فيه ، ولا تستطيع حاسة أن تقوم مقام أخرى ، ولكل منها حدود لا يمكن أن تتعداها ، وإلا بطل عملها ، وفقد تأثيرها.
وكذلك عقل الإنسان له مجاله الذي يستطيع أن يعمل فيه ، وإذا ما تخطى هذا المجال تاه وضل الطريق السوي .
إن عمل العقل أن يؤلف بين معطيات الحواس ، وأن يركب ، وأن يحلل ، وأن يخترع ، وأن يكتشف ، كل ذلك في مجال العلوم الطبيعية : الكيمياء ، والأحياء ، والطبيعة ، والفلك ، والجيولوجيا . . . الخ . أو مجال العلوم الرياضية ، وهي وإن كانت مجردة إلا أنها مرتبطة بالمحسات أيضا، فإذا ما جد العقل في هذا الإطار ؛ فإنه يمكنه أن ينتج لكنه يحتاج إلى الدين لكي يوجه نتاجه للخير والتعمير ، لا للإبادة والتدمير.
أما الغيبيات ، وما وراء الطبيعة ، والأخلاق ؛ فإن العقل عاجر عن استكناه هذا المجال واكتشافه ، ومعرفة حقائق ما فيه ، وذلك لأن العقول قاصرة ، ومتفاوتة ، ومختلفة ، فنتائجها كذلك : قاصرة ، ومتفاوتة ، ومختلفة .
إن العقل البشري عاجز عن إدراك نفسه ، وهو للآن عاجز عن فهم كيفية عمله ، كيف يتصور ، وكيف يميز ، وكيف يعقل ؟
وما زال كثير من حقائق المادة يجهلها ، ولا يعرف إلا قليلا عنها .
وحتى الآن لم يعرف شيئا عن حقيقة الروح ، وكنه الزمان ، وحقيقة المكان !! فضلا عن الجاذبية ، والإلكترون ، والأثير !!
فهل بعد ذلك يمكن أن يقال : إن العقل يصلح أن يكون بديلا عن الدين !!
يقول العلامة ابن خلدون : " العقل ميزان صحيح ، فأحكامه يقينية ، لا كذب فيها ، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة ، وحقيقة النبوة ، وحقائق الصفات الإلهية ، وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال " .
ومثلا ذلك : رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب ، فطمع في أن يزن به الجبال ، وهذا لا يدل على أن الميزان في أحكامه غير صادق ؛ لكن للعقل حدا يقف عنده ، ولا يتعدى طوره ، حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته ، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه " (5)
ولننظر نظرة واقعية تطبيقية لنرى ماذا حدث عندما اعتبر العالم العقل بديلا عن الدين ؟
لقد انقسم العالم إلى معسكرين متضاربين متصارعين ، يقف كل منهما للآخر بالمرصاد :
معسكر رأسمالي : يفتح أمام رأس المال جميع أبواب الكسب بلا قيد ولا شرط ، ولو كان بالربا والخداع ، والميسر ، أو الاتجار بالأعراض ، ودون التفات إلى ما ينتج عن ذلك من أنانية أصحاب رأس المال وطغيانهم ، وحقد العمال الفقراء وضياعهم ، وكان الاستعمار وما جره من ويلات للشعوب المستضعفة هو النتيجة الطبيعية لهذا النظام .
ومعسكر شيوعي : يزعم أنه يقدم الحل والعلاج لأخطاء النظام الرأسمالي فيضع المال ـ الذي هو أساس المشكلة في تصورهما ـ في يد الحكومة ، فيجمع لها سلطة المال فوق سلطة الحكم ، وبذلك يقسم المجتمع أيضا إلى طبقتين : طبقة تملك المال والحكم وكل شئ ، وطبقة ليس في يدها شئ : الأولى تعيش عيشة السادة الأثرياء ، والثانية تعيش عيشة العبيد الأذلاء.
ولم يدم الحال . فقد سقط الفكر العقلي الشيوعي ، وكان لابد أن يسقط ، وانهار الاتحاد السوفيتي ، وكان لابد أن ينهار . وتبين لمن يعي : الدين هاديا للعقل في جميع الأمور ، التي لو ترك العقل وشأنه فيها ضل السبيل ، وعجز عن الوصول إلى الحقيقة ، وهذه الأمور هي :
( أ ) العقائد
( ب) المبادئ الأخلاقية إجمالا وتفصيلا
( ج ) التشريع في قواعده العامة ، وفي بعض تفصيلاته . وقواعده العامة تتضمن الجزئيات على مر الزمن ، وعلى اختلاف البيئات .
أما الطبيعة والكون ؛ فمن سمائه وأرضه ، ومن جباله وبحاره ، ومن كواكبه وأقماره وشموسه ، أما المادة والطاقة . أما أعماق البحار وآفاق السماء . إن كل ذلك قد تركه للإنسان يدرسه في مصنعه ومعمله بآلاته وأدواته ، وحثه على أن يجول في ذلك ما استطاع إليه سبيلا : حتى يكشف سنن الله الكونية ، ونواميسه الطبيعية ، ويرى صنع الله الذي أتقن كل شئ ، ولم يحجر الدين على الإنسان في هذا المجال . اللهم إلا الواجب الذي ينبغي أن يكون شعاره دائما . وهو أن يكون هدفه من كل ذلك : الخير" (6)
حاجة الإنسان إلى شريعة في تنظيم حياته
مقدمة:-
إن الإنسان -وهو من أكرم المخلوقات على الله- يأتي للحياة لغاية محددة وهدف معلوم، وله رسالة واضحة، وهو يولد بين أبوين في ظل أسرة ومحيط جماعة، وهو مفطور على حب الاجتماع والعيش مع أترابه وأقربائه وجيرِِِانه، وهو في هذا الاجتماع له حاجات ومطالب، وعليه واجبات وله حقوق، وتتطلب الحياة في أخذها وعطائها تفاعل الأفراد مع المجتمع، وقيام أواصر المحبة والأخوة، ومد جسور التعامل على كل المستويات . وتنمو هذه المعاني مع امتداد حياة الإنسان ، وتتوثق الصلات أو تسوء حسب ظروف العيش ومستوى التعامل، ولهذا يقول علماء الاجتماع: إن الإنسان اجتماعي بطبعه ، أي أنه مفطور على العيش في ظل جماعة وفي كنف أمة لا يستغنى عن غيره ، والآخرون في حاجة إليه، ولا تتصور حياة سوية مستقيمة ومستقرة إلا على هذا النحو وفي ذلك الإطار، والإنسان في اجتماعه مع غيره وتعامله في حياته فتنشأ له صلات وعلاقات قد تسودها محبة الإخاء والتعاون، وقد تختلف روابط الأفراد في المجتمعات في كل فترة، قوة وضعفا، ووئاما أو اختلافا، وتعاونا أو تصادما تبعا للثقافة التي ينتمي إليها الفرد وتلتقي عليها الجماعة ومدى سلطان هذه الثقافة على النفوس، والاختلاف والتخاصم والنزاع تكاد تكون من لوازم الاجتماع، ولكن التفاوت إنما يكون في درجة الاختلاف .
حاجة الإنسان إلى ما ينظم حياته
وما دام أن من لوازم الاجتماع تآلف الأفراد تارة واختلاف بعضهم على بعض تارة أخرى؛ فإن الجماعة محتاجة إلى قواعد تنظم حياتها، وترجع إليها عند الاختلاف، وتحكمها فيما يشجر بينها .
وقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل وفي مختلف مراحل تطور المجتمعات ألوانا من هذه القواعد المنظمة للحياة التي تكون على شكل عادات أو تقاليد أو أعراف ومواصفات، وقد تكون زعامة قاهرة تأمر وتطاع أو هيئات ، أو جماعات أو تنظيمات شعبية ، أو دساتير تصدرها فئة أو جماعة أو حكومة، إلى غير ذلك من ألوان القواعد والنظم التي يصدر فيها البشر عن اجتهاد يتلاءم مع حاجات المجتمع، في فترة زمنية معينة وفي ظروف خاصة ، وتنفيذ هذه القواعد وتنظيم القوانين من فترة إلى أخرى، ولكنها في كل ذلك تصدر عن نشاط عقلي بشري يعتريه القصور والضعف والجهل والهوى ، وتؤثر فيه المطالب والحاجات والمصالح للفئة الغالبة على الأفراد والهيئات المغلوبة، ولذلك فإن هذه القواعد والنظم تأتي صورة عن الإنسان في قصوره وعجزه وجهله وأهوائه وتأثراته، وبالتالي فهو لا يحقق العدل ولا الأمن والاطمئنان للإنسان في الحياة ، وقد تجرعت الإنسانية في كثير من فترات تاريخها مرارة هذا الظلم وجور البشر .
وكانت الرسالات السماوية ضرورة اجتماعية، تتوق إليها البشرية في مختلف العصور، إذ هي رحمة الله بخلقه، ومعالم الطريق المستقيم إليه، وعدله الذي تتنسم البشرية في ظلها عبير الحرية ، وتتفيأ ظلال الأمن والعدل والسلام، ولذا جرت سنة الله في خلقه أن يبعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى توحيده وطاعته ومخافته في التعامل مع خلقه ويقيم لهم شريعة عادلة كما قال تعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) سورة النحل الآية 36 0 والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده في عقيدته مع ربه أو جوره في حكمه أو ظلمه للخلق ، والله هو خالق الخلق ومدبر الأمر ومربي البشر بألوان النعم وصنوف الفضل، تأبى حكمته أن يخلق خلقا دون أن يهيئ له ما تتطلبه حياته الآمنة المستقرة ويوائم فطرته السليمة ويصلح شأنه ويحقق سعادته وأمنه ، والإنسان محتاج إلى هداية الله ورعايته وتعريفه بربه وبنفسه، والغاية من وجوده وعلاقته بالكون والإنسان والحياة، وتحديد مركزه في الوجود ودوره في الاجتماع، وما يجوز له فعله وما لا يجوز ، وبالتالي فهو مربوب موجه مأمور منهي، مأمور بما ينفعه ويصلح شأنه ويسعده في الحياة وفى الآخرة، ومنهي عن كل ما يضر به في دينه أو دنياه على السواء، وكل ذلك من خالقه ومربيه الرحيم بخلقه اللطيف بعباده العالم بما يصلح حياتهم وآخرتهم .
وما رسالات الأنبياء في مختلف العصور إلا مظهر من مظاهر الرحمة الربانية بالخلق والعناية بالعباد، فكلما انحرفت البشرية في مسيرتها عن جادة الحق ومنهج الصواب وشارفت على الهلاك بعث الله لها نبيا من أنبيائه ليردهم به إليه ويهديهم إلى الصراط المستقيم .
أثر الإيمان في واقع الحياة
إن الإيمان أعظم واجب كلف به الإنسان في هذه الحياة، فهو حق الله عز وجل على عباده، من حققه كان له الفوز والفلاح والنجاح وكان له التمكين في الأرض، ومن أخل به كان له الخسران المبين، ولا فرق في ذلك بين الأمم أو بين الأشخاص، فالكل سيَّان في ذلك، سواء نظرنا في هذا الموضوع إلى البشرية كأمم، أم نظرنا إليها كأفراد، فالكل مطالبون بتحقيق الإيمان، فإن حققته الأمة كتب الله لها التمكين في الأرض، وكتب لها النصر والعزة، وإن أخلت به كتب الله عليها الذلة والصغار، ثم محقها وسحقها، ولنا فيما قص الله عز وجل علينا في كتابه من إهلاكٍ للأمم الماضية أكبر واعظ، وأكبر دليل على أن من أخل بالإيمان فإنه يبوء بالخسران في الدنيا قبل الآخرة قال تعالى: "وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى" [طـه:127].
وكذلك إذا كان الإخلال في الإيمان على مستوى الأفراد، فإن من أخل بالإيمان فإن له الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنتناوله لاحقاً في نتيجة الإخلال بالإيمان، ونتيجة إقامة الإيمان -أي ما الذي يترتب على إقامة الإيمان؟- سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، وما الذي يحصل للأفراد وللأمم إذا أخلوا بالإيمان؟
يقول الشيخ سفر:
نتكلم عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم، ولماذا تنهار أمم وشعوب؟ ولماذا تبقى غيرها؟ فالأمر يحتاج إلى وقت طويل؛ ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا.
وإن مما يدلل على أهمية هذا الأمر أن دعاة الحق والإيمان والسنة، حينما يدعون الناس وأنفسهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح في كل أمورهم العلمية والعملية، فإنهم إنما يدعون الأمة إلى الدواء الذي يشفي بإذن الله تبارك وتعالى من كل داء، ويكفي عن كل علاج؛ إنه الدواء الذي يستأصل جميع الأمراض من قلوب العباد -وأمراض الأمم عامة- ويمنع أسباب الانهيار التي يتعرض لها الفرد أو تتعرض لها الأمة.
وإننا حين ندعو الناس فنقول: عودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الأمر لا يعني تعصباً لمذهب معين، ولا يعني قسراً وفرضاً للناس على رأي من الآراء البشرية أبداً، ولكنه دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفراداً وشعوباً أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة من العذاب في الآخرة.
واقع إيماننا وارتباطه بالمادة
إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منه، وما من دولة أو فرد إلا وهو يخشى ذلك ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم فإنها تتحدث كثيراً عن مسألة الوجود، وإثبات الوجود، وتضع الخطط البعيدة المدى لتبقى ولتصارع ولتزاحم في خضم معترك الحياة، التي جعلوها -هم- صراعاً كصراع الوحوش في الغابات،ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم -إلا ما ندر- لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط وهي الزاوية المادية أو الاقتصادية.
حتى هذه الأمة المباركة؛ بل حتى الذين يقرءون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة -وأكثرهم من هذه الأمة- أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآراءهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن الخوف الذي يجب أن يكون لدى الأفراد أو الأمم هو الخوف من الفقر والخوف من الجانب المادي أن ينهار فينهار الفرد أو تنهار الأمة، ويشغل ذلك حيزاً كبيراً من تفكير الناس، المسلم منهم والكافر.
ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلح دنيانا وأخرانا، وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون والشيوعيون والملاحدة؛ فليست بحجة ولا بعبرة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا نبي الهدى والرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرنا فيقول: {ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم } فأي رحيم وأي مشفقٍ وأي ناصحٍ أفضل وأعظم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا أحد والله يساويه فضلاً؛ ومع ذلك ينصح لهذه الأمة، وهو الذي شفقته ورحمته ورأفته بنا كما قال الله عز وجل بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وهو الذي في يوم القيامة يوم الكرب الأعظم الذي لا كرب أعظم منه، حين يقول: كل نبي: نفسي.. نفسي، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمتي.. أمتي }.
ففعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من كمال الشفقة، والرحمة، والرأفة؛ ومع ذلك يخبرنا أنه لا يخشى علينا، وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر وإن كان قليلاً، ويدلنا على ما ندفع به كل شر وإن كان بعيداً، فقوله:{ ما الفقر أخشى عليكم } أي: أنه لا يخشى علينا الفقر مع أنه تعوذ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذ بالله منه، وهو مما يحاربه هذا الدين، بل إن الأمر في ديننا مختلف ومذهب وعن كل دين محرف.
التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان
إن أمر إطعام المسكين عند المسلمين مرتبط بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" [الماعون:1-3] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعطي الفقراء، إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان قال تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:42-44] وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة "فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:11-14] انظروا كيف تكون الرحمة مرتبطة بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فإذا صحت العقيدة فإنها ترتبط ارتباطاً مباشراً لا انفكاك معه؛ ومع ذلك كله لا يخاف علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر.
المؤمن في حماية الله تعالى
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ"(صحيح البخاري)
ش- فتح الباري بشرح صحيح البخاري الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ: قَوْله : ( عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ أَبِيهِ )
وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ " عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر " وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ عِنْد أَيُّوبَ بِوَاسِطَةٍ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
قَوْله : ( قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ " فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا " .
قَوْله : ( فَقَالَ مَا هَذَا ) فِي رِوَايَة مُسْلِمٍ " فَقَالَ لَهُمْ مَا هَذَا " وَلِلْمُصَنِّفِ فِي تَفْسِيرِ طه مِنْ طَرِيق أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر فَسَأَلَهُمْ .
قَوْله : ( هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ , هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ عَدُوِّهِمْ ) فِي رِوَايَة مُسْلِمٍ " هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ " .
قَوْله : ( فَصَامَهُ مُوسَى ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَته " شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَنَحْنُ نَصُومهُ " وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْهِجْرَة فِي رِوَايَة أَبِي بِشْرٍ " وَنَحْنُ نَصُومهُ تَعْظِيمًا لَهُ " وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيق شُبَيْل بْن عَوْف عَنْ أَبِي هُرَيْرَة نَحْوه وَزَادَ فِيهِ " وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي اِسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَة عَلَى الْجُودِيِّ فَصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ ظَاهِر الْخَبَر لِاقْتِضَائِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْم عَاشُورَاء , وَإِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ , وَالْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ أَوَّل عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَسُؤَالِهِ عَنْهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَة لَا أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا عَلِمَ ذَلِكَ , وَغَايَتُهُ أَنَّ فِي الْكَلَام حَذْفًا تَقْدِيرُهُ قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة فَأَقَامَ إِلَى يَوْم عَاشُورَاء فَوَجَدَ الْيَهُودَ فِيهِ صِيَامًا , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أُولَئِكَ الْيَهُود كَانُوا يَحْسِبُونَ يَوْم عَاشُورَاء بِحِسَابِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّة فَصَادَفَ يَوْمُ عَاشُورَاء بِحِسَابِهِمْ الْيَوْمَ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة , وَهَذَا التَّأْوِيل مِمَّا يَتَرَجَّحُ بِهِ أَوْلَوِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَحَقِّيَّتُهُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِإِضْلَالِهِمْ الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ وَهِدَايَة اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَهُ , وَلَكِنَّ سِيَاق الْأَحَادِيث تَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلِ , وَالِاعْتِمَاد عَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل . ثُمَّ وَجَدْت فِي " الْمُعْجَم الْكَبِير " لِلطَّبَرَانِيِّ مَا يُؤَيِّد الِاحْتِمَال الْمَذْكُور أَوَّلًا , وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ فِي تَرْجَمَة زَيْد بْن ثَابِت مِنْ طَرِيق أَبِي الزِّنَاد عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْن زَيْد بْن ثَابِت عَنْ أَبِيهِ قَالَ " لَيْسَ يَوْم عَاشُورَاء بِالْيَوْمِ الَّذِي يَقُولهُ النَّاس , إِنَّمَا كَانَ يَوْم تُسْتَر فِيهِ الْكَعْبَة , وَكَانَ يَدُور فِي السَّنَة , وَكَانُوا يَأْتُونَ فُلَانًا الْيَهُودِيَّ - يَعْنِي لِيَحْسِبَ لَهُمْ - فَلَمَّا مَاتَ أَتَوْا زَيْدَ اِبْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلُوهُ " وَسَنَدُهُ حَسَنٌ , قَالَ شَيْخُنَا الْهَيْثَمِيُّ فِي زَوَائِدِ الْمَسَانِيدِ : لَا أَدْرِي مَا مَعْنَى هَذَا . قُلْت : ظَفِرْت بِمَعْنَاهُ فِي كِتَاب " الْآثَار الْقَدِيمَة لِأَبِي الرَّيْحَان الْبَيْرُونِيّ " فَذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ : أَنَّ جَهَلَةَ الْيَهُود يَعْتَمِدُونَ فِي صِيَامِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ حِسَابَ النُّجُومِ , فَالسَّنَة عِنْدهمْ شَمْسِيَّةٌ لَا هِلَالِيَّةٌ . قُلْت : فَمِنْ ثَمَّ اِحْتَاجُوا إِلَى مَنْ يَعْرِف الْحِسَاب لِيَعْتَمِدُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ .
قَوْله : ( وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ) لِلْمُصَنِّفِ فِي تَفْسِير يُونُس مِنْ طَرِيق أَبِي بِشْر أَيْضًا " فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا " وَاسْتُشْكِلَ رُجُوعه إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ , وَأَجَابَ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ أَوْ تَوَاتَرَ عِنْده الْخَبَر بِذَلِكَ , زَادَ عِيَاضٌ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَابْنِ سَلَامٍ , ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ فِي الْخَبَر أَنَّهُ اِبْتَدَأَ الْأَمْر بِصِيَامِهِ , بَلْ فِي حَدِيث عَائِشَة التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومهُ قَبْل ذَلِكَ , فَغَايَة مَا فِي الْقِصَّة أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُود تَجْدِيدُ حُكْمٍ , وَإِنَّمَا هِيَ صِفَة حَالٍ وَجَوَابُ سُؤَالٍ , وَلَمْ تَخْتَلِف الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي ذَلِكَ , وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيث عَائِشَة " إِنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَصُومُونَهُ " كَمَا تَقَدَّمَ إِذْ لَا مَانِع مِنْ تَوَارُدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صِيَامه مَعَ اِخْتِلَاف السَّبَبِ فِي ذَلِكَ , قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : لَعَلَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ فِي صَوْمه إِلَى شَرْعِ مَنْ مَضَى كَإِبْرَاهِيمَ , وَصَوْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون بِحُكْمِ الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ كَمَا فِي الْحَجِّ , أَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي صِيَامِهِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ , فَلَمَّا هَاجَرَ وَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَهُ وَسَأَلَهُمْ وَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ اِحْتَمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ اِسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ كَمَا اِسْتَأْلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ , وَيَحْتَمِل غَيْر ذَلِكَ . وَعَلَى كُلّ حَال فَلَمْ يَصُمْهُ اِقْتِدَاءً بِهِمَا فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومهُ قَبْل ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْوَقْت الَّذِي يُحِبُّ فِيهِ مُوَافَقَة أَهْل الْكِتَاب فِيمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ . وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ طَرِيق أَبِي غَطَفَان - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة ثُمَّ الْمُهْمَلَة بَعْدهَا فَاءٌ - اِبْن طَرِيفٍ بِمُهْمَلَةٍ وَزْنَ عَظِيمٍ " سَمِعْت اِبْن عَبَّاس يَقُول : صَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشُورَاء وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ , قَالُوا أَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُود وَالنَّصَارَى " الْحَدِيثَ . وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ التَّعْلِيل بِنَجَاةِ مُوسَى وَغَرَق فِرْعَوْنَ يَخْتَصُّ بِمُوسَى وَالْيَهُود , وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون عِيسَى كَانَ يَصُومُهُ وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ شَرِيعَة مُوسَى لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَا نُسِخَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) وَيُقَال إِنَّ أَكْثَر الْأَحْكَام الْفَرْعِيَّة إِنَّمَا تَتَلَقَّاهَا النَّصَارَى مِنْ التَّوْرَاة . وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس زِيَادَة فِي سَبَب صِيَام الْيَهُود لَهُ وَحَاصِلُهَا أَنَّ السَّفِينَة اِسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فِيهِ فَصَامَهُ نُوحٌ وَمُوسَى شُكْرًا , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ قَرِيبًا , وَكَأَنَّ ذِكْرُ مُوسَى دُون غَيْره هُنَا لِمُشَارَكَتِهِ لِنُوحٍ فِي النَّجَاةِ وَغَرَقِ أَعْدَائِهِمَا .
أمن المؤمن في الدنيا والآخرة
وتضافرت الأحاديث لتبين فضل الإيمان على المرء المؤمن فقد روى مسلم في ذلك الباب فقال:
1- حدثني أمية بن بسطام العيشي حدثنا يزيد يعني ابن زريع حدثنا روح عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة"
ش- قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يستر الله عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة )
قال القاضي : يحتمل وجهين:
أحدهما أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف .
والثاني ترك محاسبته عليها , وترك ذكرها . قال : والأول أظهر لما جاء في الحديث الآخر " يقرره بذنوبه يقول : سترتها عليك في الدنيا , وأنا أغفرها لك اليوم "(صحيح مسلم بشرح النووي).
2- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار "
ش- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة دَفَعَ اللَّه تَعَالَى إِلَى كُلّ مُسْلِم يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُول هَذَا فَكَاكُكَ مِنْ النَّار )
وَفِي رِوَايَة : ( لَا يَمُوت رَجُل مُسْلِم إِلَّا أَدْخَلَ اللَّه مَكَانه النَّار يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا )
وَفِي رِوَايَة ( يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة نَاس مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَال الْجِبَال فَيَغْفِرهَا اللَّه لَهُمْ وَيَضَعهَا عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى ) . ( الْفَكَاك ) بِفَتْحِ الْفَاء وَكَسْرهَا الْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر , وَهُوَ : الْخَلَاص وَالْفِدَاء . وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث مَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة لِكُلِّ أَحَد مَنْزِل فِي الْجَنَّة وَمَنْزِل فِي النَّار . فَالْمُؤْمِن إِذَا دَخَلَ الْجَنَّة خَلَفَه الْكَافِر فِي النَّار لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ . مَعْنَى ( فَكَاكك مِنْ النَّار ) أَنَّك كُنْت مُعَرَّضًا لِدُخُولِ النَّار , وَهَذَا فَكَاكك ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدَّرَ لَهَا عَدَدًا يَمْلَؤُهَا , فَإِذَا دَخَلَهَا الْكُفَّار بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبهمْ صَارُوا فِي مَعْنَى الْفَكَاك لِلْمُسْلِمِينَ (صحيح مسلم بشرح النووي)
3- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَوْنًا وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا شَهِدَا أَبَا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قَالَ فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَحَلَفَ لَهُ قَالَ فَلَمْ يُحَدِّثْنِي سَعِيدٌ أَنَّهُ اسْتَحْلَفَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَوْنٍ قَوْلَهُ حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ عَفَّانَ وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عُتْبَةَ
ش- قَوْله : ( فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ )
إِنَّمَا اِسْتَحْلَفَهُ لِزِيَادَةِ الِاسْتِيثَاق وَالطُّمَأْنِينَة , وَلِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ السُّرُور بِهَذِهِ الْبِشَارَة الْعَظِيمَة لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ , وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْده فِيهِ شَكٌّ وَخَوْف غَلَط أَوْ نِسْيَان أَوْ اِشْتِبَاه أَوْ نَحْو ذَلِكَ أَمْسَكَ عَنْ الْيَمِين , فَإِذَا حَلَفَ تَحَقَّقَ اِنْتِفَاء هَذِهِ الْأُمُور , وَعَرَفَ صِحَّة الْحَدِيث , وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالشَّافِعِيّ - رَحِمَهُمَا اللَّه - أَنَّهُمَا قَالَا : هَذَا الْحَدِيث أَرْجَى حَدِيث لِلْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ كَمَا قَالَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّصْرِيح بِفِدَاءِ كُلّ مُسْلِم , وَتَعْمِيم الْفِدَاء وَلِلَّهِ الْحَمْد .(صحيح مسلم بشرح الإمام النووي
)
4- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ
ش- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُدْنَى الْمُؤْمِن يَوْم الْقِيَامَة مِنْ رَبّه حَتَّى يَضَع عَلَيْهِ كَنَفه فَيُقَرِّرهُ بِذُنُوبِهِ ) إِلَى آخِره .
أَمَّا ( كَنَفه ) فَبِنُونٍ مَفْتُوحَة , وَهُوَ : سَتْره وَعَفْوه , وَالْمُرَاد بِالدُّنُوِّ هُنَا : دُنُوّ كَرَامَة وَإِحْسَان , لَا دُنُوّ مَسَافَة , وَاَللَّه تَعَالَى مُنزه عَنْ الْمَسَافَة وَقُرْبهَا(صحيح مسلم بشرح الإمام النووي).
5- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ مَسَالِحُ الدَّجَّالِ فَيَقُولُونَ لَهُ أَيْنَ تَعْمِدُ فَيَقُولُ أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ قَالَ فَيَقُولُونَ لَهُ أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا فَيَقُولُ مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ فَيَقُولُونَ اقْتُلُوهُ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ قَالَ فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَبَّحُ فَيَقُولُ خُذُوهُ وَشُجُّوهُ فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا قَالَ فَيَقُولُ أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِي قَالَ فَيَقُولُ أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ قَالَ ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَسْتَوِي قَائِمًا قَالَ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ أَتُؤْمِنُ بِي فَيَقُولُ مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً قَالَ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ قَالَ فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ فَيُجْعَلَ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
ش- وَ ( الْمَسَالِح ) قَوْم مَعَهُمْ سِلَاح يُرَتَّبُونَ فِي الْمَرَاكِز كَالْخُفَرَاءِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِحَمْلِهِمْ السِّلَاح .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَيَأْمُر الدَّجَّال بِهِ , فَيُشَبَّح , فَيَقُول : خُذُوهُ وَشُجُّوهُ )
فَالْأَوَّل بِشِينٍ مُعْجَمَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة أَيْ مُدُّوهُ عَلَى بَطْنه , وَالثَّانِي ( شُجُّوهُ ) بِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَة مِنْ الشَّجّ , وَهُوَ الْجَرْح فِي الرَّأْس .
وَالْوَجْه الثَّانِي